دروس في القصة القصيرة
" تعريف - نشأة - ملامح
" قرأت لكم " دروساً متميزة ..
عن القصة القصيـــرة
فأحببت أن تشاركوني القراءة ..
مع تمنياتي لكم الفائدة والمتعـــــة "
أولا : ماهي القصة القصيـــــرة ؟؟؟
ربما لا يوجد تعريف واضح ومحدد لذلك الفن المراوغ شديد التعقيد، شديد الجمال في آن واحد، ألا وهو القصة القصيرة... وإذا كان القص في اللغة العربية يعني تتبع الأثر، فإن القصة القصيرة تعني أيمًا اعتناء بتتبع أثر لحظات إنسانية حياتية شديدة الأهمية منتقاة من صميم الذات وتفاعلها مع كل ما هو محيط بها.
والقص في جوهره وجهة نظر ذاتية وموقف من الحياة،
والقصه كظاهرة إنسانية نشاط ينشأ بالضرورة ويتطور منذ طفولة الإنسان، وهي كظاهرة قد وجدت منذ وجدت المجتمعات الإنسانية المبكرة لتلبي حاجات نفسية واجتماعية، ورغم اختلاف الكتاب والنقاد حول وضع تعريف ما للقصة القصيرة فإنهم تلاقوا على أنها
"نص أدبي نثري تناول بالسرد حدثًا وقع أو يمكن أن يقع"،
أو هي "حكاية خيالية لها معنى، ممتعة بحيث تجذب انتباه القارئ، وعميقة بحيث تعبر عن الطبيعة البشرية". لكن طبيعة القصة القصيرة أنها مثل الفن عمومًا، لا تخضع للتعريفات الشاملة المستقرة، حيث إنها ليست مجرد قصة تقع في صفحات قلائل، بل هي لون من ألوان الأدب الحديث الذي نشأ أواخر القرن التاسع عشر -بماهيته المتعارف عليها الآن، دون الالتفات للتجارب البدائية سواء عربيًّا أو غربيًّا- وهذا اللون له خصائص ومميزات شكلية معينة، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قال "موباسان": "إن هناك لحظات عابرة منفصلة في الحياة، لا يصلح لها إلا القصة القصيرة لأنها عندما تصور حدثًا معينًا لا يهتم الكاتب بما قبله أو بما بعده"، وربما كان هذا هو أهم اكتشاف أدبي في العصر الحديث؛ لأنه يلائم روح هذا العصر، حيث إنه الوسيلة الطبيعية للتعبير عن الواقعية التي لا تهتم بشيء أكثر من اهتمامها باستكشاف الحقائق من الأمورالصغيرة العادية والمألوفة.
والقصة القصيرة تروي خبرًا،
وليس كل خبر قصة قصيرة ما لم تتوافر فيه خصائص معينة.. أولها أن يكون له أثر ومعنى كلي، أي تتصل تفاصيله وأجزاؤه بعضها ببعض، بحيث يكون لمجموعها أثرًا، كما يجب أن يكون للخبر بداية ووسط ونهاية، حتى يكون هناك ما يسمى بالحدث.
ولقد افترض الكاتب الأمريكي إدجار ألان بو محددا للقصة القصيرة عندما قال:
"إنها عمل روائي يستدعي لقراءته المتأنية نصف ساعة أو ساعتين"،
وربما كان ما يسعى لتعريفه هو "أنها يجب أن تقرأ في جلسة واحدة". لكن يبدو التعريف الأشمل هو الذي يطرحه د. الطاهر مكي – الناقد الأدبي هو أنها:
حكاية أدبية – قصيرة، وبسيطة الخطة- تحكي حدثًا محددًا طبقًا لنظرة رمزية -الشخوص فيها غير نامية- تُوجِز في لحظات أحداثًا جسامًا معتمدة على مبدأ التكثيف فكرًا ولغة وشعورًا مما يمكنها من النجاح في نقل دفعة شعورية فائرة.
وعرفها "كالدويل" و"تشيخوف" و"كاترين آن"
وغيرهم تعريفاتٍ أخرى متأنية ومتضادة،
وبهذا يتضح أن هناك اختلافًا شديدًا في الوقوف على تعريف للقصة القصيرة، وربما تكون هذه هي طبيعية الفن عمومًا، حيث يسلبه التعريف القسري المقياسي روعته وبهائه. لكن يمكننا أن نخلص إلى أن القصة القصيرة كانت ولا تزال أقرب الفنون الأدبية إلى روح العصر لأنها انتقلت بمهمة القص الطويلة من التعميم إلى التخصيص، فلم تعد تتناول حياة بأكملها، أو شخصية كاملة بكل ما يحيط بها من حوادث وظروف وملابسات، وإنما اكتفت بتصوير جانب واحد من جوانب حياة الفرد أو زاوية واحدة من زواياه، ورصد خلجة واحدة من خلجاته، أو ربما نزعة صغيرة وتصويرها تصويرًا مكثفًا خاطفًا يعجز العقل الإنساني أحيانًا عن متابعتها،
وبهذا يتضح أن القصة القصيرة سيسلب منها الكثير إذا وضع لها تعريف ثابت ومؤطر، حيث إنها تستفيد من كل الأجناس الأدبية وتتفاعل معها، ويبقى شيء هام.. هو أن القاص المبدع –الجاد- هو وحده القادر على شكل وصياغة هذه القيمة الإبداعية الهامة ليعيد بلورة واكتشاف مناطق هامة ربما تكون مهملة في ذواتنا وفي حياتنا الآنية. ومن المفيد أن نختم بسماع صدى قراءة القصة القصيرة لدى الأدباء والمبدعين والكتاب فأحدهم قال عن شعوره إثر قراءة قصة جيدة: "كأنك تشرب كأس قهوة سوداء مركزة دفعة واحدة وأنت على عجل من أمرك لتترك مفعولها يفعل الأفاعيل في دواخلك الداكنة كذلك هي قراءة قصة قصيرة جيدة".
ثانيا : أين نشأة القصيـــــرة ؟؟؟
على وجه التحديد لا يمكن لباحث أن يقر بالموطن الذي نشأت فيه القصة القصيرة؛ وذلك ببساطة لأن الحكي خصيصة إنسانية فهي "حكاية" أو "حدوتة" أو "قصة" كانت دومًا في وجداننا حتى صارت جنسًا أدبيًّا متميزًا ونظَّر النقاد والأدباء لهذا الفن وأصَّلوه..
ويتعلم الطفل الحكي كما يتعلم النطق والمشي والغناء، فالجدة هي أمهر القُصَّاص في حياتنا إلى اليوم، وهي قصاص ذكي يحكي حسب حالة المتلقي، فتكافئنا بالحكايات الرومانسية الخيِّرة أو ترعبنا بالأسطورة الموحشة.
والقصة القصيرة باعتبارها نشاطا إنسانيا فإننا لا يمكن أن نحدد لها موطنا بدقة، وإن كان أهل كل حضارة يتنازعون بأحقيتهم في القصة باعتبار ولادتها من رحمهم، وإذا تجاوزنا الأساطير باعتبارها تمهيدًا للفن القصصي، فإننا نجد أن عالم الحيوان كمادة للحكي، كان اعتمادًا أساسيًّا في قصص الأمم كلها، فكليلة ودمنة الهندية أو الأمثال العربية أو حتى القصص اليونانية والإغريقية كل ذلك مَثَّل الحيوان فيه دورًا رئيسًا.
هل نشأت في الشرق؟
كثير من الباحثين يرون أن القصص الأوربية في عصر نهضة أوروبا تأثرت كثيرا بالأدب الفارسي ومن هذه الأشكال "الفابولا" أحد الأجناس الأدبية الأولى للقصة، وقد ظهرت في فرنسا منذ منتصف القرن الثاني عشر الميلادي وحتى أوائل القرن الرابع عشر، وهي أقصوصة شعرية تحمل روح ومعنى الهجاء الاجتماعي.
ومن هؤلاء "جاستون بارى" أستاذ الأدب المقارن الذي يقول عن الفابولا: إنها استمدت عناصرها وروحها من كتاب "كليلة ودمنة" الفارسي الأصل، والذي ترجمه ابن المقفع، وكانت فكرته الأساسية هي الحكم والفلسفات التي تقال على ألسنة الحيوان، وتعتبر الترجمة العربية لـ"ابن المقفع" أساسا مباشرا أخذت عنه الفابولا". ومن أمثلة الفابولا الغربية أقصوصة تسمى "اللص الذي اعتنق ضوء القمر" تحكي عن لص يخدعه أحد الأشخاص بأن للقمر سحرا خاصا في نقل الأشخاص دون صوت من مكان إلى آخر، ويصدق اللص الخدعة، ويقع في يد الشرطة، ونجد هذه الأقصوصة نفسها بالكيفية والفكرة والتفاصيل الدقيقة نفسها في كتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع. وللقصة العربية تاريخ طويل، فالأمثال العربية هي "قصص" في إطار محكم، وتذكر المصادر بعض القصص العاطفي القديم كمثال علي البداية المبكرة لظهور القصة القصيرة في التراث العربي، مثل قصة زنوبيا، وقصة المُرَقَّش الأكبر مع أسماء بنت عوف، كما كان لهم قصص تاريخي اسْتَقَوه من أيام العرب وبطولاتهم وأعملوا فيه مخيلاتهم.
وإذ نلحظ بوضوح تسلل القصص إلى ثنايا كتب التراث مثل "التِّبْر المَسْبوك" للغزالي أو "سراج الملوك" للطرطوشي إلا أنها لم تكن إلا قصصا وعظية ما أريدت لذاتها إنما أريدت لأثرها التربوي والتعليمي، كما أنها لم يُفْرَد لها مؤلَّف خاص بالقصص القصيرة، قبل كتاب (الفرج بعد الشدة) لأبي بكر ابن يحيى الصولي وفيه قصص محكمة النسج، قوية العقدة، سعيدة الخاتمة، متنوعة الأغراض. كان ذلك حتى برع أحد كتاب الطولونيين بمصر (ابن الداية) فألَّف (المكافأة) وهو عبارة عن 71 قصة موزَّعة على ثلاثة أقسام: الأول عن حسن الصنيع، والثاني عن مكافأة الشر بمثله، والثالث حول حسن العُقْبى. ومن أشبه الأجناس بالقصة القصيرة في أدبنا العربي "المقامة" التي تعتمد على المحسنات اللفظية والبديعية في الأساس، وللمقامات بطل واحد في كافة الأحداث وهو دائمًا يعتمد على الحيلة والذكاء للتخلص من مآزق يضعه المؤلف فيها، والبطل مثل أبي زيد السروجي عند الحريري أو أبي الفتح السكندري عند مؤلِّفه أبي البديع الهمذاني شخصية تجمع بين الدهاء وطيبة القلب وحب الأسفار وهي أقرب إلى الفكاهات الاجتماعية. بدايات القصة الحديثة تأثرت بالقصص الشرقية أول لون من القصة عرفته أوروبا في العصر الوسيط كان كتاب (التربية الدينية) ليهودي أندلسي يدعى (موسى سفردي) اعتنق الكاثوليكية 1106م وسَمَّى نفسه (بدرو ألفونسو)، وأغلب الظن أنه كتبها بالعربية ثم ترجمها وهي خليط من كليلة ودمنة والسندباد البحري وغيرهما، وكان هذا هو مَعْبَر أوروبا إلى القصة، وهو جسر عربي واضح المعالم باعتراف نقاد الغرب أنفسهم، وباقتصار القَصّ الأسباني على الوعظ والتربية، نما القص الإيطالي في القرن الرابع عشر داخل حجرة فسيحة في الفاتيكان أطلقوا عليها: "مَصْنع الأكاذيب"، اعتاد أن يتردد عليها العاملون في الفاتيكان للَّهو والتسلية وإطلاق القصص المختلفة عن رجال ونساء الفاتيكان حتى دوَّن أحدهم (بوتشيو) هذه القصص وسماها "الفاشيتيا".. وفي القرن السادس عشر انتشرت في أسبانيا وإيطاليا وفرنسا قصص الرعاة، وهي قصص تمجِّد الحب العذري وأخلاق الفرسان وحياة البداوة متأثرة بوضوح بقصص العرب (محور الحضارة وموضة العالم آنذاك!)، حتى خبا وهج القصة القديمة في القرن 18 الميلادي وكادت تندثر بتأثير إهمال الأدب في العالم كله والاهتمام بما هو مادي ملموس فحسب.
القصة الحديثة أوروبية خالصة ومع بدايات القرن التاسع عشر بدأ انتشار الصحافة وانتشر معها الفن القصصي، ودخول القصة معترك السياسة أعطاها حيوية ومضيًّا كسلاح لا يُفَلّ، ودخلت في الصراع الاجتماعي والديني حتى أصبحت مناضلة دون مقصدها تتنفس بالشكوى والتمرد، وتصارع مع البسطاء قسوة الحياة وغلظتها، ويكفي أن نذكر أسماء ذات اعتبار لندرك كيف أن هذا القرن هو قرن القصة القصيرة: موباسان – تشيخوف - إدجار آلان بو – جوجول- أوسكار وايد- دوديه – هوفمان. وملخص القول في هذه القضية ما يؤكده الناقد الأدبي د. عبد المنعم تليمة (الأستاذ بكلية الآداب – جامعة عين شمس بمصر) أن العرب لم يأخذوا القصة الحديثة عن أوربا، فـ(القَصّ) جذوره ممتدة في التراث العربي.. أما القصة القصيرة بشكلها الحديث الذي وصلت إليه فهي نتاج أوربي بلا مراء، ولكن العرب لم يتخلفوا عن ركب القصة القصيرة؛ لأننا أبدعنا في هذا المجال في عصر موازٍ للإبداع الغربي، ودعوى سبق أوربا لنا لا تقوم؛ لأن الفارق الزمني بيننا وبينهم لا يتعدى عشرات من السنين، وهذا -في رأيه- ليس زمنًا طويلاً ولا عصرًا كاملاً. ثالثا : ماذا عن القصة العربية في العصر الحديث ؟؟؟ كانت المقامة هي الإرهاصة الأولى لفن القصة القصيرة العربية بشكلها المتعارف عليه الآن.
وبعد فترة خفت صوت الحضارة العربية ليتلقف الغرب منجزها الفكري/ العلمي، فأضاف إليه بعد أن عكف على دراسته وتحليله، وكان لهذا الفكر دور مهم في النهضة الغربية الحديثة، وفي منتصف القرن التاسع عشر بدأت موجة من الترجمات عن الغرب -وإن كانت قد بدأت قبل ذلك وتحديدًا في الثلاثينيات، على يد رفاعة الطهطاوي- فحدث تفاعل وتلاقح نتيجة الاطلاع على هذا المنجز الذي أضاف ولا شك للبنية الفكرية العربية التي كانت تعيد تشكيل وعيها بعد فترة طويلة من السكون. ظهرت القصة كفن أدبي في بداية القرن العشرين، وكان لها ذيوع كبير، وتذهب بعض الآراء إلى أن أول قصة قصيرة عربية بالشكل المتعارف عليه كانت قصة "في القطار" لمحمد تيمور، والتي نشرت في جريدة "السفور" سنة 1917، بينما هناك آراء أخرى تقول بأن أول قصة قصيرة عربية تظهر في العصر الحديث كانت لميخائيل نعيمة، وهي قصة "سنتها الجديدة" التي نشرت في بيروت عام 1914. مصر نموذجا كانت ثمة جهود ومحاولات للاقتراب من كتابة القصة القصيرة العربية، واضطلع بالقيام بهذه المحاولات "عبد الله النديم" من خلال مجلته "التنكيت والتبكيت"؛ حيث كان يلجأ إلى الشكل القصصي في انتقاداته اللاذعة التي اشتهر بها، كذلك تجربة لبيبة هاشم ومنصور فهمي وخليل مطران، وإن كانت كلها لم تتعدَّ الإسهام في الشكل الهيكلي للقص، ثم كانت تجربة "محمد المويلحي" في "حديث عيسي بن هشام"، والتي اقتفى فيها أثر المقامة العربية القديمة، وأيضًا كتابات "مصطفى لطفي المنفلوطي" التي كانت وعظية انتقادية في المقام الأول، لكن كان لها دور مهم في هذه المرحلة؛ ما وفر لها فرصة الذيوع والانتشار، وجاءت مرحلة أخرى مهمة وهي مرحلة الرواد الذين ضربوا بحماس وقوة في أرض ذلك الفن الجميل، والذين أنتجوا بالفعل تجارب قصصية لها كيانها الفني والفكري، طبقا لعصرهم وظروفه، وهؤلاء هم: محمد تيمور، عيسى عبيد، شحاتة عبيد، محمود تيمور، محمود طاهر لاشين. في هذا الوقت كانت ثورة 1919 قد فتحت وعي الكثيرين على ضرورة التجديد والثورة على القديم، وظهر إلى النور ما سمي "المدرسة الحديثة في القصة" والتي قادها "أحمد خيرت سعيد" من خلال مجلة "الفجر" التي كان شعارها الهدم من أجل البناء. ومن أبرز أعضاء هذه المدرسة: حسين فوزي، يحيى حقي، إبراهيم المصري، حسن محمود، سعيد عبده، محمود البدوي. ولقد قدمت المدرسة الحديثة إنجازات مهمة توازت مع حركة الترجمة التي كانت نشيطة في هذا الوقت، وأصبح للقصة القصيرة مكانة هامة، وصارت محط ترحيب كافة الإصدارات والدوريات. ثم جاء جيل الخمسينيات كما اصطلح على تسميته. ومن أبرز كتاب هذا الجيل: يوسف الشاروني، يوسف إدريس، أبو المعاطي أبو النجا، عبد الرحمن الخميسي، محمد صدقي… وكان للحركة التحريرية التي شبت في العالم العربي إبان النصف الثاني من القرن العشرين دورًا هامًا في تبني هذا الجيل لشعارات وتوجهات الأنظمة السياسية، ولم ينجح منهم إلا القليل الذين ظلوا مخلصين للقصة كفن يعبر عن ذواتهم وعن مجتمعاتهم. تعد حقبة الستينيات من أكثر الفترات غليانا على مستوى المحيطين العربي والعالمي، فقد كانت هناك حرب باردة بين قطبي العالم وقتها:
أمريكا الاتحاد السوفيتي. وكان للعالم العربي وضعيته الخاصة؛ فهو يموج بالكثير من حركات التحرر والتغيير، ومحاولة إيجاد شكل ديمقراطي للحياة السياسية، وبهذا كان جيل الستينيات كالقذيفة التي انفجرت. وبرز في هذا الجيل أسماء عديدة كان لها تواجدها ودورها الهام على الخريطة الإبداعية العربية، فلقد قفز هذا الجيل بكتابة القصة قفزات واسعة، وأصبحت أقلامه مرايا مخلصة لمجتمعها تعري عيوبه، ومن أبرز هذه الأسماء:
محمد حافظ رجب، يحيى الطاهر عبد الله، إدوار الخراط، سليمان فياض، محمد البساطي، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، إبراهيم أصلان، عبد الحكيم قاسم، مجيد طوبيا، محمد إبراهيم مبروك، بهاء السيد، عز الدين نجيب، محمد جاد الرب، محمد عباس، الدسوقي فهمي، خيري شلبي، محمد مستجاب، محمد جبريل... السودان نموذجًا *
مؤثرات على نشأة القصة القصيرة السودانية:
التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى خلخلة النظام القبلي الموروث، ونمط الحياة المستقرة. - التأثر الواضح بالموروث من التراث الشعبي والأسطورة. - حركة الأدب في كل من مصر وسوريا ولبنان وبريطانيا، والكتب المترجمة من الأدب الروسي إلى اللغتين العربية والإنجليزية، والتي كانت في أوج مجدها في تلك الفترة. دور معاوية محمد نور شهدت فترة الثلاثينيات نشاطا واسعا للناقد والقاص معاوية محمد نور، من كتابة للقصة، ودراساته في النقد الأدبي، وإسهاماته المتعددة في الصحف والمجلات الإنجليزية والمصرية واللبنانية أثناء دراسته بجامعة بيروت. ويعتبر معاوية نور أول من كتب القصة القصيرة بمعناها المحدد والمعروف. وساهمت مقالاته في النقد بصحيفة السياسة الأسبوعية في اتجاه الكتّاب نحو الواقعية وتصوير الشخصيات الحية ودعاها إلى تبني القصة النفسية الاجتماعية، وقدم أمثلة حية بكتاباته للقصة القصيرة، وإن اعتمدت على طريقة التحليل النفسي. وأدى ظهور مجلتي "النهضة" و"الفجر" إلى المساهمة في استقطاب وتشجيع الكتّاب ونشر أعمالهم ودراساتهم عن فن القصة. فظهرت في تلك الفترة أسماء: عبد الحليم محمد، السيد الفيل، حسن أحمد ياسين، ومحمد عشري الصديق كأول من اهتموا بالقصة القصيرة ووضع لبناتها الأولى لتسير جنبا إلى جنب مع الحركة الشعرية التي ازدهرت في تلك الفترة. ودارت أغلب قصصهم عن الزواج والحب والنزوح من القرية والسفر. وأخذت الأسطورة والتراث حظهما الجيد من اهتماماتهم التي لم تخرج من نطاق فكر المجتمع آنذاك. ونال الاستعمار أيضا قدرا لا بأس به من الاهتمام لديهم ليعبروا بذلك عن مشاعر الأمة، وليستحقوا لقب جيل الرواد. فترة الأربعينيات أما فترة الأربعينيات فقد جاء التأثر فيها واضحا بالمذاهب الفكرية التي ظهرت في السودان، ومن أبرزها ما سمي بالواقعية الاشتراكية. وعرفت القصة تطورا نوعيا في نمط وأشكال القصة إلى التعبير عن قطاعات المجتمع الدنيا، وأصبحت القصة أكثر ديناميكية، واكتسبت صفة الحيوية باستيحائها للشخصيات والحواريات من عمق المجتمع ورصد حالاته وتحليلها. ومن أبرز الأسماء في هذه الفترة: خليل علي، أبو بكر خالد، وعثمان علي نور الذي أصدر مجلة «القصة» كأول مجلة سودانية متخصصة تعنى بالقصة القصيرة. وظهرت أسماء تركت بصماتها الكبيرة في الأدب السوداني الحديث كله أمثال البروفيسور علي المك، د. إبراهيم الشوش، الشاعر صلاح أحمد إبراهيم، الزبير علي وغيرهم. وتعتبر هذه الفترة من أخصب الفترات وأكثرها تأثرا بحركة الأدب والنقد العالمية، وبانتشار فن القصة على نطاق واسع.
وأفاد كتّاب هذه الفترة كثيرا من هجرتهم ودراساتهم بالخارج. وتزامن هذا الثراء في القصة مع حركة الشعر الكبيرة التي انتعشت في تلك الفترة. الجزائر نموذجا نشأت القصة الجزائرية على يد رجال الإصلاح ومقاومة المحتل مثل: محمد بن العابد الجلالي، ومحمد سعيد الزهراوي.
وكانت تسمى القصة الإصلاحية وتتناول القيم التي يجب أن تسود المجتمع وضرورة التخلص من المحتل، وأهمية الحرية وكان ذلك في حوالي 1924، لكن التطور والنضج الحقيقي كان على يد جيل الثورة الأدبي؛ حيث عرفت الحياة الأدبية والثقافية في الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية (1944) تطوراً ملحوظاً، فقد كثر عدد الكتاب ورجع بعضهم إلى أرض الوطن، وتخرج بعضهم الآخر في معاهد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كما شهدت هذه المرحلة استمرار إرسال البعثات العلمية إلى البلاد العربية، وخاصة إلى تونس، والمغرب الأقصى، مما نتج عنه ازدهار طرأ على مختلف الأنواع الأدبية إثر تأسيس النوادي والجمعيات الثقافية، وانتشار الصحف اليومية والمجلات الدورية التي تعنى بالإبداع. ويعد قيام حرب التحرير الوطنية الكبرى في أول نوفمبر عام 1954 من أهم عوامل تطور الأدب الجزائري المعاصر سواء على صعيد الشكل أو المضمون، "والتحقت القصة بدورها بالجبل تعايش الثورة وتكتب عنها، ومن القصاص من تفرغ للثورة، وتخصص فيها، ولم يكتب عن أي موضوع سواها مثل عثمان سعدي وعبد الله ركيبي، وفاضل المسعودي ومحمد الصالح الصديق. لارتباط القصة بالثورة الجزائرية أثران:
أحدهما إيجابي: ففي الشكل حاول القصاصون استعارة أشكال فنية مختلفة من الآداب العربية والأجنبية لمواكبة التعبير عن الثورة، وعلى مستوى المضمون أثرت الثورة التحريرية في مضمون القصة، بما لا يقل عن أثرها في الشكل، فقد تقلصت الموضوعات الإصلاحية وخلفتها موضوعات جديدة استلهمت الواقع، فكثر وصف صمود الشعب الجزائري أمام قوى المستعمر وتصوير بطولات المناضلين والتعبير عن الحياة الاجتماعية الجديدة. أما التأثير السلبي: فقد اهتم القاص الجزائري اهتماماً كبيراً بتصوير المعارك، وبدافع وطني يمليه إحساسه بالواجب، والتزام بتصوير كفاح الشعب، وقد أدى هذا الالتزام إلى بروز بعض الكتابات الضعيفة، لغياب التركيز أو عنصر التشويق.
أبرز كتاب جيل الثورة (1954-1962): عبد الحميد بن هدوقة، وأبو العيد دودو، والطاهر وطار. سوريا نموذجا الإرهاصات 1931-1947: نُشر في هذه المرحلة اثنتا عشرة مجموعة قصصية، كان فن القصة القصيرة واضحاً في بعضها، وفي قسم آخر ترجح بين الصورة والمقالة والخاطرة، لكنها في مجملها تحمل بذور نضوج فن القصة القصيرة في تاريخ الأدب السوري. إن الجرأة على نشر المجموعات، وطرق موضوعات لم يعتد طرقها من قبل، والاستفادة من الاحتكاك مع الآخر جديرة بالانتباه، بخاصة أن أماكن النشر كانت متعددة، والكتاب كانوا من مناطق متعددة، وقد أسهمت الصحافة إسهاماً فاعلاً، وراح عدد من أولئك القاصين يتابع الكتابة والنشر لاحقاً، وقد طوّر تجربته وقادها إلى مصاف فنية مقبولة: أديب نحوي- مظفر سلطان... كانت أمام الكتاب آنئذٍ مهام عديدة تتصل بضرورة ترسيخ جذور الفن القصصي؛ إذ أدرك معظمهم أن مفهوم القصة القصيرة غربي الجذور، وعلى الرغم من بدء نشاط الترجمات من الأدب الفرنسي والروسي، وبدء انتشارها سواء أكانت ترجماتها في سورية أم لبنان أم مصر، فإن الأدباء كانت تتناوشهم ناران: نار الصدمة مع الآخر وضرورة الاستفادة مما تقدمه ثقافته، ونار كونه محتلاً لأرضنا. إن الهم الاجتماعي كان من أبرز الهموم التي شغلت القاصين، وتجلى ذلك عبر نقد ما يقوم به الناس وبعض العادات والتقاليد، وكان الديدن الرئيسي لهذا الهم الإشارة إلى الآثار الاجتماعية المأساوية على العلائق بين الناس. مثلما انصرف عديدون نحو معالجة الهموم الذاتية ذات البعد الإنساني التي تتعلق بمدى مقدرة الذات على الانسجام مع المجتمع، وما تكابده هذه الذات نتيجة بعض العادات والتقاليد. وراح قاصون يتحدثون عن هموم تاريخية، فيما انشغل بعضهم بالصدمة مع الغرب وتأكيد الفروقات، وكذلك تأكيد ضرورة الاحتكاك. استواء الفن 1959- 1968: وهذه المرحلة أبرز الحلقات في تاريخ القصة السورية من حيث تقديمها وترسيخها لعدد من الأسماء التي لا تزال تعدّ من أميز الكتاب، مثل: زكريا تامر، وليد إخلاصي، حيدر حيدر، محمد حيدر... تأثرت القصة السورية بانكسار الحلم القومي إثر انهيار الوحدة المصرية السورية وكذلك الصفعة الكبرى في حرب 67، وقد تجلت آثار هذه الصدمة في نفوس الناس وفي مختلف منتوجاتهم من أدب وفن وفكر. تميزت القصة القصيرة في تلك الفترة بالمقدرة الواضحة في المزج بين القضايا الاجتماعية والقضايا الوطنية والقومية التي أدرك عديدون أنها لا تنفصل عن بعضها، وربما تكتسب جميعها المزيد من المصداقية في ظل تقاطعها. فيما انشغل بعضهم في تسجيل تجربته الشخصية التي عايشها، غير حريص كثيراً على المسألة الفنية بقدر حرصه على توثيق ما حدث معه، وربما غير آبه بإعطائها الأبعاد الإنسانية أو تعميقها دون أن يغفل المرء عن الأثر البكائي الانفعالي، واللغة الإنشائية العالية في بعض القصص. رابعاً : لمحات في أسلوب كتابة القصة القصيرة للقصة القصيرة عناصر هامة تتضافر وتتشابك لتخرج في النهاية هذه التركيبة الإبداعية الإنسانية، ولا نزعم أن هناك من يمكنه أن يضع "أسسًا" للفن؛ حيث يميل الفن إلى التنافر مع التأطير ومحاولة الاحتواء، لكننا نحاول مجرد الوقوف على أهم عناصر وتراكيب فن القصة القصيرة، الذي يضفي مزيدًا من الجمال على تكوينها. انطلق "أدجار ألان بو" في تعريفه القصة القصيرة من وحدة الانطباع، ومن أنها تُقرأ في جلسة واحدة. ورأى "سومرست موم" أنها قطعة من الخيال، وركز "فورستر" على الحكاية، واعتمد "موزلي" على عدد الكلمات. وقال "هيدسون" بأن ما يجعل عمل الفنان قصة قصيرة هو الوحدة الفنية. ويرى "شكري عياد" أنها تسرد أحداثاً وقعت حسب تتابعها الزمني مع وجود العلية. بينما يلتقي الناقد الأيرلندي "فرانك أكونور" (Frank acoonor) مع "حسن اليافي" في جعلها أشبه بالقصيدة الشعرية من حيث "التغني بالأفكار والوعي الحاد بالتفرد الإنساني". وإذا نحن أمعنا النظر قليلاً في كل هذه التعريفات؛ فإننا سنجد كلاً منها يستند إلى واحدة أو أكثر من خصائص القصة القصيرة؛ ليستنتج منها تعريفاً شاملاً.. فوحدة الانطباع أو القصر المعبر عنه بعدد الكلمات أو بالقراءة في جلسةٍ واحدة، أو الحكي أو الشاعرية كلها مميزات لا تخلو منها القصة القصيرة.
فإذا كان لا بد للتعريف من أن يتأسس على الخصائص؛ فالأجدر أن يكون جامعًا؛ لأن وحدة الانطباع في حد ذاتها مسألة نسبية، قد لا تختص بها القصة القصيرة وحدها؛ فهي أثر تتركه النادرة والنكتة والخاطرة والقصيدة الشعرية، ولِم لا تتركه الرواية أيضاً في ذهن قارئ يستوعب النص، ويتمكن من تحريكه في رحابة ذهنية طيعة؟ وعدد الكلمات قضية جزئية بالقياس إلى البنية الفنية، وقد نصادف أعمالاً في حجم القصة القصيرة من حيث عدد الألفاظ، وربما تنسب إلى الرواية أسبق من القصة. لا شك أن التركيز والتكثيف يمكنان من القبض على لحظة حياتية عابرة، ولا يسمحان بتسرب الجزئيات والتفاصيل، ويحتم هذا الموقف على الكاتب أن يستغني عن كل ما يمكنه الاستغناء عنه من الألفاظ والعبارات، وكل ما من شأنه أن يثقل النسيج القصصي، ويبدو حشوًا يرهل النص، ويضعف أثره الجمالي. أما كونها قطعة من الخيال؛ فذلك أمر بديهي.
إلا أن الأكثر بداهة هو ألا يكون عنصر الخيال خاصية في القصة القصيرة دون غيرها. إذ الخيال قوام كل عمل أدبي ناجح، وفي غيابه لا معنى للحديث عن أدب.. هكذا يتبين أن الاعتماد على خاصية واحدة لتعريف القصة القصيرة -ولو أن الخاصية أبرز من غيرها- يظل يشوبه النقص ولا يفي بالغرض المنشود. ولعل الباحث المغربي "أحمد المديني "قد شعر بقصور كل واحد من التعريفات السابقة مأخوذة على حدة؛ فقال موفقاً بينها جميعاً:
"وبالإجمال نستطيع القول: إن القصة القصيرة تتناول قطاعا عرضياً من الحياة، تحاول إضاءة جوانبه، أو تعالج لحظة وموقفاً تستشف أغوارهما، تاركة أثراً واحداً وانطباعاً محدداً في نفس القارئ، وهذا بنوع من التركيز والاقتصاد في التعبير وغيرها من الوسائل الفنية التي تعتمدها القصة القصيرة في بنائها العام، والتي تعد فيها الوحدة الفنية شرطاً لا محيد عنه، كما أن الأقصوصة تبلغ درجة من القدرة على الإيحاء والتغلغل في وجدان القارئ، كلما حومت بالقرب من الرؤية الشعرية". والقصة لغة:
"أحدوثة شائقة. مروية أو مكتوبة، يقصد بها الإقناع أو الإفادة"، وبهذا المفهوم الدلالي؛ فإن القصة تروي حدثاً بلغة أدبية راقية عن طريق الرواية، أو الكتابة، ويقصد بها الإفادة، أو خلق متعة ما في نفس القارئ عن طريق أسلوبها، وتضافر أحداثها وأجوائها التخييلية والواقعية. والقصة عند الكاتب الإنجليزي "هـ. تشارلتون" H.B. TCHARLETON إن لم تصور الواقع فإنه لا يمكن أن تعَد من الفن. عن الحدث إن القصة القصيرة لا تحتمل غير حدث واحد، وربما تكتفي بتصوير لحظة شعورية واحدة نتجت من حدث تم بالفعل أو متوقع حدوثه، ولا يدهش القارئ إذا انتهى من القصة، ولم يعثر بها على حدث؛ إذ يمكن أن تكون مجرد صورة أو تشخيص لحالة أو رحلة عابرة في أعماق شخصية، لكن لأن القصة القصيرة -على خلاف الرواية- عادة ما تركز على شخصية واحدة تتخذها محورًا ومنطلقًا، لا بد أن يكون هناك شخصيات أخرى تقدم خدمات درامية لهذه الشخصية، كما تتكشف لنا من خلال هذه التفاعلات والاشتباكات.
ولهذا تتضح أهمية الحدث وأهمية أن يكون فعلا قويًا شديد التركيز والسلاسة وشديد التعبير أيضًا عن الحالة النفسية لأبطال العمل؛ لأن القارئ إذا لم يجد هناك حدثًا هامًا وفاعلا فسينصرف عن متابعة العمل؛ إذ إنه فقد الحافز المهم وهو الحدث..
إن الحدث هو ما يمكن أن نعبر عنه في أقل عدد من الكلمات.. والحدث ببساطة يمكننا أن نعرفه من خلال محاولتنا التعبير عن فحوى القصة في أقل عدد ممكن من الكلمات؛
ففي قصة الفاركونيت يمكننا أن نقول: إن الحدث هو: اعتقال رب أسرة، والقلق الذي يسود هذه الأسرة الصغيرة.. أما في بيت من لحم فإننا نستطيع القول بأن الحدث بها هو الرغبات المكبوتة المحتدمة داخل النفس البشرية، أو أن نقول: "ظل رجل ولا ظل حائط"، كما يقول المصريون.. ونختم بمقولة آندروسون إمبرت -الناقد الأرجنتيني- حين يتحدث عن: "وحدة نغم قوية وعدد قليل من الشخصيات، وموقف نترقب حل عقدته بنفاد صبر، ويضع القصاص نهايته فجأة في لحظة حاسمة مفاجئة". التكثيف والاختزال يبدأ بناء القصة القصيرة مع أول كلمة، ومعها يشرع الكاتب في الاتجاه مباشرة نحو هدفه، فإن هذه البداية تحمل الكثير من رؤية العمل وروحه؛ فيجب أن تكون البداية مشوِّقة محفزة للقارئ أن يواصل القراءة ليرى ما هي حكاية هذه القصة.
يجب أن يكون العمل متماسكًا مكثفًا متخلصًا من السرد غير اللازم الذي يصيب العمل بالترهل، وربما كانت مقولة يوسف إدريس خير دليل، عندما قال: "إن القصة القصيرة مثل الرصاصة تنطلق نحو هدفها مباشرة"، ولهذا يجب أن يكون العمل متماسكًا في وحدة عضوية شديدة، وأن يكون محكم البناء، وأن يمسك الكاتب بعناصر الكتابة جيدًا حتى يستطيع أن يفرغ على الورق كل ما يدور بداخله بدقة وصدق ليضمن وصوله إلى القارئ في سهولة وصدق أيضًا؛ ولهذا يجب أن تكون البداية والنهاية والحدث على درجة عالية من التكثيف والتركيز.
لا مجال في القصة القصيرة لأي كلمة لا تخدم الهدف الأساسي للكاتب، وليس معنى ذلك أن الكاتب يكون قد حدد لنفسه هدفًا واحدًا تصب فيه فكرة قصته.. ولا يسعه الخروج منها أبدا، لكن الأمر يتلخص في وحدة الحالة الشعورية عند الكاتب التي تؤدي إلى أن القارئ بعد انتهائه من القصة يصل إلى أن النهاية التي وصل إليها الكاتب لا يوجد في السياق إلا ما يخدمها فقط؛ فـ"إدجار آلان بو" يصفها قائلاً: "يجب ألا تكتب كلمة واحدة لا تخدم غرض الكاتب". ويمكن أن نلمح هذا التكثيف والاختزال في القصص المعروضة في أروع ما كتب؛ حيث تلاحظ في غالبيتها أنه لا وجود لوصف لا يخدم غرض الكاتب، كما لا توجد شخصيات يمكننا حذفها دون إخلال بالسياق.. وأرقى صور الاختزال والتكثيف هو الاختزال على مستوى اللغة؛ فقدر الإمكان يجرد الكاتب لغته من كل ما لا يخدم غرضه الفني..
الزمان والمكان في القصة القصيرة في القصة القصيرة يمكن باستخدام أسلوب ودلالة ما أن أوضح كثيرًا من العناصر مثل الزمان والمكان.. فيما يخص الزمان فإن تحديد حقبة تاريخية معينة -بداية القرن التاسع عشر مثلا- كفيلة عند ذكرها في القصة أن تنقل المتلقي إلى عالم آخر، وكفيلة وحدها -إن أراد الكاتب- أن تنتقل بالمتلقي إلى عالم خاص من التعليم الديني والورش والصناعات الصغيرة والهدوء الذي يلف الناس..
والآمال المتواضعة والأحلام البسيطة و… إذن فالزمان وحده أضاف أبعادًا لا متناهية على القصة، ومثال آخر حينما يتحدث الكاتب عن الثالثة بعد منتصف الليل فإن ذلك ينتقل بالمتلقي إلى الرهبة والخوف والأعمال غير المشروعة، وبائعات الهوى واللصوص، أو المؤمنين وسبحاتهم، أو الأم القلقة على وليدها المريض أو الزوجة القلقة على زوجها الذي تأخر.
أما بخصوص المكان فمن خلال استخدام أدوات القص يمكنني أن أعرف ماهية المكان الذي تدور فيه أحداث القصة؛ فهل هو مكان مغلق، محدود بجدران وسقف، أم مكان مفتوح غير محدود بشيء؟ هل هو على شاطئ البحر أم على ظهر طائرة؟… إلخ؛ ولهذا دور مهم في تهيئة الجو الخاص للتلقي، خاصة إذا كان القاص يمتلك أدوات الوصف بشكل جيد. والزمان والمكان مرتبطان كثيرا في العمل القصصي؛ ففي المثال الذي أوردناه عن الزمان: الليل، فلا يمكن للمتلقي أن يركز في اتجاه قصة ما لم يعرف أين مكان هذا الزمان: في شارع مظلم، أم في شقة متواضعة، أم في وكر لعصابة؟ وبتطبيق ذلك على قصة الفاركونيت نستطيع أن نقول: إن هذه الجملة الافتتاحية التي تحدد الزمان "هدير السيارة يزعج صمت الليل" استطاعت أن تنقلنا إلى عالم القصة فورا وتدخلنا في أجوائها.. الرمز في القصة القصيرة يلجأ كاتب القصة لاستخدام الرمز في حالات عديدة، منها مثلا: إذا كانت قصته تدور في فلك الرمزية أو تجنح إلى الفلسفة والغيبيات، لكن الحالات التي يلجأ فيها الكاتب إلى الرمز مضطرًا هي عندما حينما يتصدى الكاتب لنوع من القهر، وخاصة عندما يواجه "بالتابوهات" الثلاثة التي تقف أمام أي كاتب، وهي (السياسية، الدين، الجنس)، وهناك كتاب كثيرون استطاعوا التعامل بذكاء مع مثل هذه "التابوهات"، وربما كان أكبر مثال على ذلك في تاريخنا الأدبي هو كتاب "كليلة ودمنة" للحكيم "بيدبا"، وهو مجموعة من الحكايات -القصص- تحكي على ألسنة الطير والحيوانات، لكنها في الأساس تقدم نقدًا لمجتمع المؤلف وقتها. ولما كانت القصة القصيرة هي أكثر الأجناس الأدبية تفاعلا وتأثرًا بغيرها من الأجناس فلقد استفادت بالكثير من أدوات المسرح مثلا كالظلال واللعب بالأضواء، وأمثلة أخرى كثيرة لأهمية استخدام الرمز في القصة القصيرة، لكن الأكثر وضوحًا أن اللجوء للرمز بشكل مفرط يضيع الكثير من جماليات العمل الفني، خاصة لمن هم على أول الطريق الإبداعي.
لكن الأمر المؤكد أن الكاتب الذكي اللماح يستطيع أن يثري عمله إذا اعتمد على الرمز، وتحولت كل مفردات العمل إلى "حمالة أوجه" تحمل وجهًا ظاهرًا للجميع، وآخر أعمق لا يدركه إلا المتذوق الجيد، وهو ما يمكن أن نطلق عليه: تعدد مستويات النص.. وعلى سبيل المثال فقصة الفاركونيت تحوي عددا من الرموز التي تثري العمل؛ فالسيارة الفاركونيت رمز للسلطة الغاشمة.. والرجل ذو السيجارة رمز للظالم غير المكترث، والمدرسة التي لا يفتأ الطفل يرددها رمز للبراءة والطفولة والصدق.. والبناية السكنية ككل هي رمز للمجتمع المغلق الذي ينتظر أفراده السَوْق إلى المذبح.. أما في بيت من لحم فيتجلى الرمز في الدبلة التي أصبحت رمزا داخل العمل لعملية اللقاء المادي بين الرجل والمرأة.
ف ى النهاية
ارجو الفائدة والتطبيق
موضوع منقول